من بين العلوم ذات الصلة الوثيقة بفن التدريس علم النفس؛ لأن كليهما يعالج النفس البشرية بالدرس والفهم، والتحليل والتقويم، ولكي يتضح وجه الصلة بين التدريس وعلم النفس، يُذكر أن فعل التعليم ينصب مفعولين، فإذا قلت: علّمت أحمد اللغة العربية، فإن الفعل "علم" قد تناول كلا من "أحمد" و"اللغة العربية" ولكي تكون صادقا في هذه الدعوى، ينبغي أن تكون عالما بكل من المفعولين "أحمد - اللغة" فأما علمك باللغة فهذا أمر يسهل التسليم به؛ لأن شرط أساسي في إسناد تدريس اللغة إليك، وأما علمك بأحمد فليس المقصود أن تعلم شيئا عن ثروته أو مسكنه، أو عدد أفراد أسرته - وإن كانت التربية الحديثة تدعو إلى دراسة التلميذ من هذه النواحي الاجتماعية؛ لما لهذه الدراسة من آثار واضحة في توجيه الناشئ، وحسن إعداده، وحل مشكلاته، وتهيئته لأن يكون مواطنا مستنيرا، يتفاعل مع مجتمعه تفعاعلا مثمرا - ولكن المقصود أن تعلم عن "أحمد" ميوله وطبائعه، ومستواه العقلي، وطريقة تفكيره، وتعلم ما يشوّقه ويروقه، وما يملّه ويسئمه ... إلى غير ذلك مما يتصل بمدى استعداده للتعلم، وعلم النفس هو الذي يتكفل بالكشف عن هذه النواحي، ولا شك أن الأسليب الحديثة في التربية، قد استمدت عناصر نجاحها من تجارب العلماء، الذين عنوا بالطفل، وجعلوه محور بحوثهم ودراساتهم، واستطاعوا بفهمهم هذه الطبيعة البشرية الغضة، أن يلائموا بينها وبين ما يراد لا من وسائل الصقل والتعليم، وأن يبتكروا للحالات الفردية والطبائع الشاذة، وما يصلح لها من أساليب التعهد والرعاية.
وقد لوحظ كيف أخفقت في الماضي طرق التدريس، التي أنكرت الطفل وتجاهلته، ولم تبن على أسس صحيحة، مستمدة من دراسة الطفولة دراسة علمية دقيقة.
وقد انتفع فن الترديس كثيرا بتجارب علم النفس ومبادئه وأصوله، وعدل كثيرا من طرائقه وأساليبه، في ضوء التجارب النفسية الحديثة ومن ذلك مثلا: أنه كان من قواعد التدريس السير من السهل إلى الصعب، وكان تطبيق ذلك يقضي بالسير من الجزء إلى الكل، على اعتقاد أن الجزء سهل والكل صعب، ولكن علم النفس أثبت خطأ هذا التطبيق، وأثبت أن إدراك الجزء ليس أسهل من إدراك الكل، بل أثبت أن الذهن -في إدراكه الأشياء- إنما ينتقل من الكل إلى الجزء، ويظهر ذلك في رؤيتنا شجرة مثلا، فإننا نراها أولا "كلا" ثم نتبين بعد ذلك أجزاءها، من جذع وفروع وأوراق، وما عليها من أعشاش الطيور، وكذلك رؤيتنا الطائر أو العمارة أو نحو ذلك.
ولو كان الذهن ينتقل في إدراك الأشياء من الجزء إلى الكل لعُرفت الذرة وخواصها قبل أن تُعرف المادة المجسمة المرئية، ولكن لم تُعرف الذرة إلا في العصر الحديث، بعد أن قُطع في دراسة المادة وتسخيرها والتحكم فيها أشواط بعيدة.
ومن آثار علم النفس في تهذيب أساليب التدريس، أنه - في تعليم القراءة للمبتدئين - عدل عن الطريقة التركيبية إلى الطريقة التحليلية، أو بعبارة أخرى، عدل عن طريقة الانتقال من الحرف إلى الكلمة، إلى طريقة الانتقال من الكملة إلى الحرف، كما روعي في شرح المفردات اللغوية عرضها في جملة، لأن فهم الجملة يساعد على فهم المفرد اللغوي، أي أن الجزء يفسر في ضوء الكل ... وهكذا.
(يتبع)من بين العلوم ذات الصلة الوثيقة بفن التدريس علم النفس؛ لأن كليهما يعالج النفس البشرية بالدرس والفهم، والتحليل والتقويم، ولكي يتضح وجه الصلة بين التدريس وعلم النفس، يُذكر أن فعل التعليم ينصب مفعولين، فإذا قلت: علّمت أحمد اللغة العربية، فإن الفعل "علم" قد تناول كلا من "أحمد" و"اللغة العربية" ولكي تكون صادقا في هذه الدعوى، ينبغي أن تكون عالما بكل من المفعولين "أحمد - اللغة" فأما علمك باللغة فهذا أمر يسهل التسليم به؛ لأن شرط أساسي في إسناد تدريس اللغة إليك، وأما علمك بأحمد فليس المقصود أن تعلم شيئا عن ثروته أو مسكنه، أو عدد أفراد أسرته - وإن كانت التربية الحديثة تدعو إلى دراسة التلميذ من هذه النواحي الاجتماعية؛ لما لهذه الدراسة من آثار واضحة في توجيه الناشئ، وحسن إعداده، وحل مشكلاته، وتهيئته لأن يكون مواطنا مستنيرا، يتفاعل مع مجتمعه تفعاعلا مثمرا - ولكن المقصود أن تعلم عن "أحمد" ميوله وطبائعه، ومستواه العقلي، وطريقة تفكيره، وتعلم ما يشوّقه ويروقه، وما يملّه ويسئمه ... إلى غير ذلك مما يتصل بمدى استعداده للتعلم، وعلم النفس هو الذي يتكفل بالكشف عن هذه النواحي، ولا شك أن الأسليب الحديثة في التربية، قد استمدت عناصر نجاحها من تجارب العلماء، الذين عنوا بالطفل، وجعلوه محور بحوثهم ودراساتهم، واستطاعوا بفهمهم هذه الطبيعة البشرية الغضة، أن يلائموا بينها وبين ما يراد لا من وسائل الصقل والتعليم، وأن يبتكروا للحالات الفردية والطبائع الشاذة، وما يصلح لها من أساليب التعهد والرعاية.
وقد لوحظ كيف أخفقت في الماضي طرق التدريس، التي أنكرت الطفل وتجاهلته، ولم تبن على أسس صحيحة، مستمدة من دراسة الطفولة دراسة علمية دقيقة.
وقد انتفع فن الترديس كثيرا بتجارب علم النفس ومبادئه وأصوله، وعدل كثيرا من طرائقه وأساليبه، في ضوء التجارب النفسية الحديثة ومن ذلك مثلا: أنه كان من قواعد التدريس السير من السهل إلى الصعب، وكان تطبيق ذلك يقضي بالسير من الجزء إلى الكل، على اعتقاد أن الجزء سهل والكل صعب، ولكن علم النفس أثبت خطأ هذا التطبيق، وأثبت أن إدراك الجزء ليس أسهل من إدراك الكل، بل أثبت أن الذهن -في إدراكه الأشياء- إنما ينتقل من الكل إلى الجزء، ويظهر ذلك في رؤيتنا شجرة مثلا، فإننا نراها أولا "كلا" ثم نتبين بعد ذلك أجزاءها، من جذع وفروع وأوراق، وما عليها من أعشاش الطيور، وكذلك رؤيتنا الطائر أو العمارة أو نحو ذلك.
ولو كان الذهن ينتقل في إدراك الأشياء من الجزء إلى الكل لعُرفت الذرة وخواصها قبل أن تُعرف المادة المجسمة المرئية، ولكن لم تُعرف الذرة إلا في العصر الحديث، بعد أن قُطع في دراسة المادة وتسخيرها والتحكم فيها أشواط بعيدة.
ومن آثار علم النفس في تهذيب أساليب التدريس، أنه - في تعليم القراءة للمبتدئين - عدل عن الطريقة التركيبية إلى الطريقة التحليلية، أو بعبارة أخرى، عدل عن طريقة الانتقال من الحرف إلى الكلمة، إلى طريقة الانتقال من الكملة إلى الحرف، كما روعي في شرح المفردات اللغوية عرضها في جملة، لأن فهم الجملة يساعد على فهم المفرد اللغوي، أي أن الجزء يفسر في ضوء الكل ... وهكذا.
(يتبع)